بين الهُولوكُست وسَفَر بَرلِك!*

عاجل

الفئة

shadow


*جورج ياسمين*

واهمٌ مَن يعتقد أن أميركا تضغط على إسرائيل لوقف اطلاق النار والمذبحة الجارية في غزة منذ شهر ونصف. اليوم يصادف يوم الطفل العالمي. نتنياهو “يعايد” أطفال فلسطين بأبشع وأفظع ما سجّلته قواته عبر تاريخها الحافل بالدماء والأشلاء.
وساذج من يظنّ أن غالبية العرب والغرب تريد لمجزرة “سان بارتيليمي” بنسختها المنقّحة المعدّلة أن تنتهي.
حرب اللاآت المتبادلة بين واشنطن وتل أبيب ليست أكثر من بيع مواقف وشراء وقت.
تقول واشنطن: لا لاحتلال غزة وبقاء تساحال فيها، لا لتهجير الفلسطينيين من غزة، لا لبقاء حماس في غزة ولا لسلطة غير فلسطينية في غزة، تقابلها إسرائيل: لا لوقف اطلاق النار قبل “الأجهاز” على حماس، لا لاطلاق الفلسطينيين المعتقلين في السجون الإسرائيلية تحت ضغط الأزمة، لا للهدن الطويلة والنهائية قبل تحقيق أهداف الحرب ولا لأي شكل من أشكال السيادة الفلسطينية على غزة.
وضعت إسرائيل هدفين لحربها على غزة: الأول هو القضاء على حماس والثاني هو تحرير المخطوفين. لم يتحقق أي من الهدفين حتى الآن بالرغم من مرور أكثر من أربعين يومًا على السبت الأسود.
كل الكلام المخاتل المخادع من تغيير في أدبيات الخطاب الأميركي ليس سوى مستحضرات تجميل ومساحيق زينة على وجه قبيح هو إسرائيل.
أميركا رمت القفازات بوجه الصين التي عاد رئيسها للحديث عن تعاون يتخطى التباينات العابرة والخلافات المحدودة بين البلدين إلى مرحلة جديدة تستطيع فيها الصين أن تبحث عن أسواق لصناعاتها ومنتجاتها المكدسة في العنابر والمخازن وأرصدتها الطائلة الباحثة عن استثمارات مجزية وعائدات مربحة لا تجدها إلا في أميركا.
أميركا رمت الطعم لروسيا التي أكلته سابقًا في أوكرانيا واليوم تتهيأ – وفق خططها – لابتلاعه من دون عسر هضم بعد الحرب على غزة.
روسيا لا تحتج ولا تدين ولا تتوعد.
تراها فرصة سانحة ولحظة مؤاتية لتضييق الخناق على زيلينسكي وتصفية الحساب مع الجمهورية العاصية أوكرانيا.
أما السعودية التي كانت قاب قوسين أو أدنى من التطبيع مع تل أبيب بعد اعلان الهدنة مع طهران وإعادة إحياء سكة حديد الحجاز التي ساعد غليوم الثاني قيصر المانيا عبد الحميد الثاني سلطان اسطنبول على إنشائها، لتصبح هذه المرة وصلة درب الحرير الجديد التي تريد الرياض أن تكون أبرز محطاته، فهي اليوم تعيد ترتيب أولوياتها وتضع التطبيع على الرف بانتظار انتهاء معركة التجويع والتركيع والتطويع.
أما ايران فلا تنوي “التفريط” بما تحقق على مستوى العلاقة غير المباشرة مع أميركا في الملف النووي واستتباعا الملف الإقليمي وليست في وارد التراجع عما تحقق على صعيد العلاقة مع السعودية.
صحيح أن ايران من أبرز الدول الداعمة لحركات المقاومة الفلسطينية وتحديدًا حماس التي زار المسؤول الأول فيها إسماعيل هنية منذ فترة طهران لاطلاعها على ما حصل في السابع من تشرين الأول الماضي والاستئناس بقراءتها لمآل الأمور في المنطقة وتطورات معركة غزة وما قيل عن هذه الزيارة مما لا يعلمه أحد خارج الطرفين بالرغم من السيناريوهات التي بدأت تأخذ طريقها إلى محطات وفضائيات غربية وعربية لا تكن ودًا ظاهرًا لإيران ومصالحتها المستجدة مع الرياض.
في هذا الوقت، تستثمر إسرائيل في التخاذل العربي والتنازل الغربي والنفاق الأميركي.
لم تتح لإسرائيل فرصة للقضاء على الربيع الفلسطيني (النسخة الوحيدة الناجحة والشجاعة لما سمي بالربيع العربي) كما يحصل اليوم.
لن تدع إسرائيل الفرصة تفلت من يديها.
ستضرب بكل ما أوتيت من حقد وغدر ووحشية.
هي فرصة لن تتكرر لتصفية القضية الفلسطينية وليس للقبول بحل الدولتين. لن تقبل إسرائيل بدولة فلسطينية بين ظهرائيها. حياة الفلسطينيين تعني موت إسرائيل والعكس صحيح بنظر تلامذة زئيف جابوتنسكي وديفيد بن غوريون وتيودور هرتزل وحاييم وايزمان وليوبولد أميري وموشيه شاريت واسحق شامير ومناحيم بيغن وغيرهم ممن ينظر اليهم يهود الشتات وأرض الميعاد على أنهم الأسباط الجدد ليعقوب إسرائيل.
على المقلب العربي لم يكلف رؤساء وملوك وقادة “أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة” أنفسهم عناء ولو الاصرار والإلحاح على أدراج بند وقف اطلاق النار في غزة في اجتماعهم الأخير في السعودية. الفضيحة التي توقف عندها الاعلام العبري هي أن القادة العرب لم يُدرجوا في متن بيانهم الختامي أي مطالبة لإسرائيل بوقف اطلاق النار والمقتلة في غزة بل حل الدولتين والهدنة الإنسانية والمساعدات الطبية وكأن ما يحصل في غزة زلزال من عمل الطبيعة أو حرائق غابات أو سيول وفيضانات!
لم يتغير العرب كثيرًا منذ 1948 – لا بل صاروا أسوأ – في العام 1967 وبعد حرب الستة أيام وخسارة سيناء والجولان والضفة الغربية ومزارع شبعا والقدس اجتمع العرب في الخرطوم واعلنوا لاآتهم الشهيرة: لا للصلح، لا للاعتراف لا للتفاوض.
اليوم وبعد 56 عامًا على النكسة، العرب صالحوا واعترفوا وفاوضوا من دون خجل ولا حياء ولا وجل.
السيناريوهات المطروحة للاستهلاك وإضاعة الوقت بانتظار استكمال الهولوكست الفلسطيني وسفر برلك الغزاوي هي التالية:
السيناريو الأول: عودة السلطة الفلسطينية إلى غزة بعد إزاحة حماس – وفق الهدف الإسرائيلي – على ظهر الدبابات الإسرائيلية وهذا سيناريو لا يجرؤ محمود عباس على قبوله ولا غيره ودون هذا السيناريو عقبات أبرزها القبول مسبقًا بحل الدولتين.
السيناريو الثاني: تدويل الأزمة الفلسطينية وهو ما برز في اليومين الماضيين لجهة دعم أميركا وأوروبا خطة نشر قوة أممية في غزة بعد الحرب وهو سيناريو ترفضه تل أبيب بشدة ولن تقبل مجرد النقاش به لأنه يُخرج غزة من قبضتها وسيطرتها ويحيلها إلى قوة متعددة الجنسيات (على غرار ما حصل في بيروت إثر الغزو الاسرائيلي العام 1982). ورفض تل أبيب نابع من موقفها غير القابل للتفاوض حول ما تعتبره سيادتها وسيطرتها وهيمنتها على قرار غزة بعد الحرب.
السيناريو الثالث: تعريب الأزمة ودخول مصر والأردن على خط “مساعدة” الفلسطينيين لاستعادة حياتهم والتنسيق مع إسرائيل لجعل غزة منزوعة السلاح ومدينة آمنة وبأيدي أمينة. باختصار منزوعة السيادة والقرار. هذا القرار أيضًا ترفضه اسرائيل التي تريد نقل المشكلة إلى الأردن ومصر وليس إبقاء المشكلة عندها.
إذًا، بين حل الدولتين التي تراوغ به أميركا وتناور ريثما يتم القضاء على حماس بضوء أخضر من بايدن، وبين تصفية القضية الفلسطينية التي يعتبر نتنياهو ان اليوم وليس غدًا هو التوقيت المثالي لتحقيقها ، بين بايدن ونتنياهو تقف أوروبا حائرة خائفة خائبة مما تخبئ لها الأيام وأبرز ترجمة لهذا التخبط هو الموقف الفرنسي الذي بدأ مع ماكرون مطالبًا بتشكيل تحالف دولي – غربي ضد حماس التي أدرجها في خانة الإرهاب والذي انتهى بالتظاهرات الصاخبة المؤيدة للفلسطينيين في باريس وكل فرنسا وبالموقف المفاجأة للخارجية الفرنسية – الكي دورسيه – الذي تحدث عن وحشية وعنف غير مسبوق في استهداف المدنيين العزل في غزة!
منذ عشرين شهرًا بدأت الحرب بين روسيا وأوكرانيا فورًا ومن دون اتصالات أو مساعي لاصلاح الوضع بين البلدين دخلت أوروبا وأميركا على الخط، اتهمت بوتين باحتلال أراضي أوكرانيا وفرضت عقوبات وقدمت مساعدات بلغت حتى اليوم 240 مليار دولار أسلحة واعتدة وبرامج تدريب لزيلينسكي، وجعلت من أوكرانيا “أيقونة نضال” في وجه المحتل وإلى ذلك من التباكي على الحرية وذرف الدموع وإشعال الشموع وكل ما يحتويه كتاب الدعاية الصفراء من أساليب. صار الأوكرانيون أبطال حرية يتصدون لاحفاد “امبراطورية الشر” – روسيا – كما وصفها يومًا رونالد ريغان.
اليوم تحتل إسرائيل فلسطين تقتل تشرّد تدمّر تذبح الأطفال وتُجهز على المرضى في المستشفيات، تسوّي أحياء برمتها بالأرض، تدكّ الكنائس والمساجد. كل ذلك وأميركا والغرب – وحتى العرب – لا يتحركون. القاتل هو الضحية والضحية هي القاتل.
يحق للأوكران ما لا يحق للفلسطينيين.
ازدواجية المعايير نسق خبيث وقبيح لا تخجل أميركا في التباهي به عندما يتعلق الأمر بإسرائيل.
في السلم يدفن الأبناء آباءهم وفي الحرب يدفن الأباء أبناءهم. أما في غزة العائلة كلها – العائلات – تموت أباء وأبناء وبنات وأمهات وأطفال ولا يجدون من يدفنهم.
“أمبراطورية الشر” عادت لايمانها، امبراطورية ريغان تخلّت عنه…

الناشر

علي نعمة
علي نعمة

shadow

أخبار ذات صلة